كريم هاشم العبودي
( أطفال العراق ) .. بينهم اجتماعات سرية .. لعقد اتفاقية للدفاع المشترك .. ليدافعوا عن بعضهم أذا ما حاول شخص ما إيذاء احدهم.. !!
تفجرت الأكياس السوداء .. وتلاشى جسد (كرار) في عصف الانفجار الذي حوله إلى قطع صغيرة .. ملقاة على ارض العراق الطاهرة ..
أم سيف : (نعمل في مهن شريفة .. ولا نسرق أو نشحذ .. كما أننا نوفر لأطفالنا .. تعليما على مستوى قدرتنا المادية .. فولدي الكبير أنهى دراسته الجامعية .. وهو اليوم صاحب بسطية !!
صغارا .. ولكن تجدهم كبارا .. يعيلون عوائلهم .. بعرق جبينهم .. المغمس بالشرف العراقي .. لم تمتد اياديهم الطرية .. للسحت الحرام .. يحملون كتبهم المدرسية .. بيد .. وفي اليد الاخرى .. يحملون امنياتهم واحلامهم .. الطفولية .. تجدهم .. في الاسواق .. وفي المتنزهات .. يلتفون حولك حالما تضع أقدامك على أعتاب أسواق الخضار في أية منطقة من مناطق بغداد الحبيبة .. يدسون أكياس البلاستك عنوة بين يديك .. ويدفعون بعرباتهم نحوك دون أبطاء .. فعلى هذا يعيشون .. ومن هنا تأتي قوتهم بعد جهد يومهم الطويل .. وبرغم الخوف الذي يمنعك من أن تبادر بالسؤال عن عالمهم ثمة فرصة لان تعرف خفايا المدينة من أحاديثهم التي لاتخلو من المفاجأة والغرابة في أحيان كثيرة .

اساعد بابا وماما الي ربوني
احد الاطفال وجدته في حدائق احد المجمعات السكنية في بغداد .. كان يحتضن ( كارتونه زغيرونه ) .. كانت تحوي الجبس والعلكة .. وبعض النساتل المحببة لدى الاطفال .. وحتى الكبار .. سألته عن واقع عمله فأجاب ببراءة الطفولة : ( عمو اني اجي من العصر .. واكعد أبيع الجبس والكيك لاساعد بابا وماما الي ربوني .. وتعبوا علي ) قبلته من جبينه .. ورحت ابحث عن اخر ..
اتمنى اكمل دراستي
( علاوي ) .. طفل لم يتجاوز السابعة من العمر .. بائع أكياس البلاستك الذي يستقبل كل القادمين إلى السوق بكلماته التي لأتغيب عنه (علاكه عمي) (خالة خوش علاكه) وهذا يعني باللهجة العراقية وهو(كيس بلاستك) .. قال والابتسامة لاتفارق شفتيه انه قد أتم السابعة من عمره .. وانه يذهب في الصباح إلى المدرسة وأضاف انه (شاطر) أنهى الصف الأول الابتدائي بنجاح .. وهو ألان في الصف الثاني .. أبوه وأمه غير متعلمين وحين سألناه: هل يريد أن يكمل دراسته يوما ما .. رفع كتفيه وأدار عينيه في محجريهما قائلاً: أكمل ولم لا ؟!!
اجتماعات سرية فيما بينهم !!
بعد لحظات أقترب طفل أخر .. يدفع عربته التي صنعها من عدة صناديق بلاستك مرتبة فوق بعضها مثبتة على قاعدة خشبية .. ربط بها إطارات معدنية تصدر ضجيجا عاليا يعلو مع ضجة السوق .. واخذ يتساءل .. عما نريد من الطفل فتبين أن الاطفال .. هنا قد عقدوا فيما بينهم اتفاقية للدفاع المشترك .. فهم يجتمعون بينهم ليدافعوا عن بعضهم أذا ما حاول شخص ما إيذاء احدهم.. !!
عالمهم ليس بسيطا ؟!!
عالم الأطفال في أسواق بغداد ليس بسيطا .. فهو عالم يسيطر عليه الكبار .. واغلب الأطفال يكونوا عادة بصحبة إبائهم وأمهاتهم وأخواتهم الكبار .. فهم يجلبون أطفالهم الصغار.. لبيعوا الاكياس البلاستيكية .. بينما يعمل الأكبر منهم سنا في حمل أغراض المتبضعين بعرباتهم ويتفرغ الأهل لبيع الخضار..!!
وتلاشى جسد .. كرار .. !!
مضى وقت طويل قبل أن يتجمهر الاطفال حولنا بعد أن زالت مخاوفهم منا يتسابقون للحديث عن تفاصيل حياتهم في سوق الخضار، فقد روى لنا (احمد) ذو الأعوام التسعة قصة الرجل الغريب الذي استأجر عربة زميله (كرار) بعد أن وضع فيها مجموعة من الأكياس السوداء وتقدم أمامه ليغيب في زحمة المتسوقين .. ويترك (كرار) .. حائرا في السوق بحثا عنه .. وماهي ألا لحظات .. حتى تفجرت الأكياس السوداء وتلاشى جسد (كرار) في عصف الانفجار الذي حوله إلى قطع صغيرة ملقاة على الأرض.ويكمل القصة صبي آخر (بعد الانفجار طوقوا السوق بحواجز كونكريتية من كل الجهات .. وفتحوا فيها أبوابا لايدخل منها احد ألا بعد تفتيشه خشية أن يأتي غريب أخر ويفجرنا) ..
حكاية ام سيف
(أم سيف) .. بائعة خضار في عقدها الرابع .. يعمل ابنها في بيع الأكياس البلاستيكية قالت: (أن السوق امن بالنسبة للأطفال هنا لان كل واحد يعرف الأخر واغلب الأطفال هم من أبنائنا وليسوا غريبين عن بعضهم .. ونحن نحرص عليهم .. ولا نتركهم يغيبون كثيرا عن بسطياتنا) وتكمل حديثها : (نعمل في مهن شريفة ولا نسرق أو نشحذ كما أننا نوفر لأبنائنا تعليما على مستوى قدرتنا المادية فابني الكبير أنهى معهد الإدارة في العام الماضي وهو ألان صاحب بسطة في الجهة الأخرى من السوق، المشكلة أنهم لو أكملوا تعليمهم سيعودون إلى السوق في النهاية) وذلك من قلة فرص العمل في الدوائر الحكومية.!!
احرص كل الحرص على اطفالي
أما (أبو وسام) .. صاحب بسطية للفواكه والخضر في احد أسواق بغداد الجديدة .. فتراه يقول : أنهيت دراستي في معهد الإدارة .. واعمل في إحدى الدوائر الحكومية في الصباح وبعد الدوام اشرف على هذه البسيطة للفواكه والخضر مع ابني حمودي ..بسمة عمري .. واكسب منها رزقا)..
حزين على حبيبي حسوني
وبدموع صامتة عبر الطفل ( عمر ) عن حزنه العميق لفقدان صديقه حسين نتيجة تفجير ارهابي في أعظمية المحبة ..
يقول عمر .. ( حسوني جان صديقي .. واموت عليه .. كلش هوايه .. من مات كمت اخاف ..عمو .. وين الكه مثله عمو )
أحاديث بعض الاطفال الذين التقينا بهم .. بعضهم كانوا فقدوا التفكير بها تماما.فالطفل (عمر) قال: انه غبي لم يكمل المدرسة بعد تكرار رسوبه أخذه والده للعمل معه على بسطيه الفواكه والخضر .. واطفال اخرون اخبرونا .. بانهم
أنهم لايذهبون للمدارس .. لان أوضاعهم المادية صعبة وهي التي دفعتهم للعمل في السوق.. احدهم قال: إن وفاة والده هي السبب في خروجه مع أمه للعمل .. وأضاف بلهجة الكبار (العيشة تنراد) ..
توفي أبي فجأة !!
وتابع (لقد توفي أبي بشكل مفاجئ بالسكتة القلبية قبل عامين .. ولا أنا ..ولا أمي نجيد العمل في السوق .. لقد كانت وفاته صدمة لنا كلنا .. فقد كنا نعتمد عليه .. كنا نعيش بخير وسعادة .. وفجأة .. نهضنا صباحا من النوم .. لنراه جثة هامدة من دون حراك .. في أيام خير مع أبي وفي أتم الحال متى استيقظنا ووجدناه قد فارق الحياة .. لم يكن يشكوا من شيء على الإطلاق فقد كان يأخذنا إلى (منطقة الكاظمية) ويشتري لنا الثياب .. لكن ألان أصبحنا نذهب لنشتري ملابس مستعملة لنرتديها .. وعندما سألناه عن المدرسة قال لنا وباستخفاف: (يا مدرسة ؟) !!
تسرب من مقاعد الدراسة !!
احد الباعة علق قائلاً: (أننا نتعجب من تزايد أعداد الأطفال اللذين يبيعون الأكياس هنا .. فلم يكن عددهم بهذه الضخامة من قبل) .. وأضاف: (أن اغلب هؤلاء الأطفال يقضون أكثر وقتهم في البيع) .. وعزا سبب سماح الأهل بالتسرب من مقاعد الدراسة إلى سوء الأوضاع الاقتصادية والقفزة في أسعار المواد الغذائية التي جعلت العديد من العوائل بلا معيل.
وماتت أمي !!
(سامر) ذو الاثنى عشر ربيعا رفض البوح بما يحتمل في صدره من الم وفي عينيه بريق دموع الفقراء .. تطوع طفل اخر ليسرد لنا حكاية فقال : كان ابنا لرجل يعمل في البناء سقط من فوق (السكلة) .. فانكسر ظهره ويجلس الان كسيحا في البيت .. وتضطر أمه للعمل ببيع الخضار في السوق لتؤمن لهم العيش .. وذات صبح انفجرت عبوة وسط السوق كانت (أم سامر) إحدى ضحاياه..
وهكذا تنتهي الحكاية ..