كريم هاشم ألعبودي
أجمل ما قرأنا في درس المطالعة والنصوص عندما كنا طلبة في الدراسة الأعدادية .. كانت قصيدة ( شناشيل أبنة الجلبي ) .. للشاعر بدر شاكر السياب .. حينها كانت الثقافة ومطالعة الادب .. تأخذ القسط الأوفر من إهتماماتنا .. ربما كان السبب يوعز عن حبنا لمدرس اللغة العربية آن ذلك .. وربما عشق الصبا يأخذنا الى أبنة الجلبي .. لذا سنكون اليوم مع قصة الشناشيل العراقية .. ولنتعرف عن تفاصيل الشناشيل .. ولماذا وضف السياب في قصيدته الشناشيل لبنت الجلبي ؟
في أخشابها نقشت أجمل الذكريات
هذا ما قاله الباحث التراثي القدير أبراهيم الدهش .. بشأن الشناشيل العراقية والذي أضاف قائلا : الكثير منا تعايش بين كفوف الشناشيل ورسم بين شقوق أخشابها أجمل الصور لذلك بقت الى يومنا هذا راسخة في أذهاننا ، وتعد الشناشيل العراقية معلمآ تاريخيآ مهمآ .. وعنوان لقدم وحضارة أغلب المدن التاريخية .. فكانت البصرة قبل العاصمة بغداد معروفة بشناشيلها خاصة عند أغلب احيائها القديمة التي كانت في مركز المحافظة وما يعرف بالبصرة القديمة وكذلك عند البيوتات المطلة على شط العرب . أما في بغداد فكانت الأعظمية و الفضل و باب الشيخ و البتاويين و الحيدر خانة و أبو سيفين في جانب الرصافة والرحمانية و الكاظمية في جانب الكرخ وكذلك هنالك مدن أخرى كانت الشناشيل أحد المعالم فيها مثل مدينة العمارة مركز محافظة ميسان وفي أحيائها القديمة وقضاء سوق الشيوخ في محافظة ذي قار . ومدن قديمة أخرى ..

ما أحلى رائحة خشب ( الجاوي )
وهنا وقف ماجد النصيراوي ذلك الكاتب القدير .. والعاشق لحبيبته بغداد .. وشارعها الخالد المتنبي .. ليقص لنا تأريخ الشناشيل العراقية .. يقول النصيراوي : عرفت الشناشيل في العراق منذ القرن السابع عشر الميلادي . والشنشول هو مفردة الشناشيل .. التي قيل عنها إنها فارسية الأصل . وهي مكونة من مقطعين ( شاه شين ) .. أي بمعنى محل جلوس الشاه ، ولها عدة مسيمات .. مثلا كانت تسمى الروشين التي مفردتها الروشن وايضا هي لفظة فارسية ومعناها الضوء ..

قصة الشناشيل
ويضيف : وهنالك رأيي اخر أن استخدامها منذ العصور الأسلامية !! أما أين يكمن تواجد الشناشيل في البيوت ، فغالبا ماتكون في الطابق العلوي من البيوتات وبعض الأحيان تكون في الآراسي داخل البيوتات . والأرسي أو الأراسي هو مكان مكان الضيافة ويكون أما وسط الحوش ( وسط البيت المفتوح من السقف والذي يحيط به الغرف من الجوانب ) أو الطابق العلوي فتكون الشناشيل في مقدمة الأراسي المطلة على الزقاق وهو ( شبيه الهول حاليا ) أي غرفة ( المعيشة ) التي هي مخصصة للضيوف الغير رسميين . أما جمالية الأرسي في وسط الحوش فهي تكمن في نقوش وعمل الزجاج الملون المطعم بجدران الأراسي مع مهارة الحفر على الأخشاب . أما المواد التي تدخل في صناعة الشناشيل فهي من الخشب الجاوي الذي كان يستورد من الهند وتحديدا من مدينة ( جاوة ) . وما أجمل تلك الرائحة التى تنبعث من ذلك الخشب . أما سبب أختيار الأخشاب في صناعة الشناشيل فكان خفة وزنه أذا ما قورن بالطابوق بحيث لايكون حملا ثقيلا على السطح لأن أغلب السطوح كانت تسقف من الخشب . أضافة لبرودة الاخشاب خاصة إنها تقينا من حر الصيف حيث كنا نعاني سابقآ من فقدان أجهزة التبريد الحديثة وكذلك رخص ثمن الخشب كان من دواعي العمل به أيضا والأهم من ذلك إن وجود الشناشيل وأطلالتها على جيران الحي كانت سببآ في تطبيع العلاقات الأجتماعية وتحسينها فيما بينهم حيث كانت الشبابيك ذات فتحات مثلثة ممكن الناظر في الداخل يشاهدوه من كانوا خارجآ وخاصة من الذين يسيرون بين الأزقة . فكان وقت العصر قبيل المغرب و وقت الضحى .. حديث الاحبة مع بعضهم من الجيران بعد فتح قخمات ( الشبابيك ) والقخمة عبارة عن شباك .. وطريقة فتحة أما الى الاعلى .. ترفع او تكون عن قطعتين من الخشب المنقوش .. تفتح اما الأثنين معا او واحدة منها ومقطعة بقطع خشبية بحيث تتحرك الى الاعلى او للأسفل .. لغرض المشاهدة وهنالك رزات تغلق بها الشبابيك والرزات قفل صغيرة مجرد للغلق والفتح .. وهذه القخمات او القخمة غالبا ما تكون في الأراسي التي توجد في داخل البيت ايضا وتفتح كما كانت في الطابق العلوي .. والغاية منها تهوية المكان اضافة الى المشاهدة . ولخفة وزن الأخشاب .. كانت سهولة حركة القخمات .. وقد حافظت على طابعها الخاص .. فهي مطعمة بالزخرف المتناظرة من الفيسفاء . ومن أيجابياتها أيضا سهولة النقل من مكان الى اخر .

كانت رمزا للجمال !!
وبألم بالغ يصف الاستاذ مناف العبيدي حال شناشيل العراق اليوم .. فقال : الشناشيل واحدة من أهم الشواخص المعمارية التي تحاكي الهوية الجمالية للمدن العراقية وأحيائها وأزقتها القديمة وبيوتها التي تعاني اليوم من الإهمال والتآكل والقِدم، بعد أن كانت رمزًا للجمال والإبداع الفني العراقي، الشناشيل هذا التراث الذي يقف اليوم أمام تصدعات الزمن وإهمال المعنيين، يحكي اليوم آخر قصصه من زمن الماضي الجميل علّها تكون سفينة النجاة.

تعاني اليوم اهمالا كبيرا !!
اما الباحث والمتخصص في التراث العراقي عدنان الشبلي .. فقد قال : ان بيوت الشناشيل التي كانت مناطقها توصف بالجميلة والغنيّة في أربعينات القرن الماضي، أصبحت اليوم تعاني من الإهمال بعد رحيل أهلها، حيث أشتهر يهود العراق في التاريخ المعاصر ببنائهم لبيوت الشناشيل في أغلب مناطق سكناهم، لكن وبعد خروجهم من العراق عانت هذه المناطق من الإهمال ولم تشهد أي عملية إعمار على مدى سبعة عقود ونصف .
قطعًا فنية نادرة
وأضاف : واليوم أصبحت أرى أن الأسلوب المعماري الذي امتازت به بيوت الشناشيل عن غيرها من بيوت المحلة، أضفى عليها نكهة خاصة في تاريخ التراث البغدادي المعماري، وأن هذه البيوت تعتبر قطعًا فنية نادرة لما لها من جمالية في طرازها وهندستها المعمارية، لذا صرت حريصًا جدًا على الإبقاء على بيتنا كما هو، كونه الآن يمثل تحفة فنية، ولأنه يحمل ذكرياتي كلها، وكان من قبل مسكن أبي وجدي، وأتألم كثيرًا وأنا أرى عمليات هدم الكثير من هذه البيوت واستبدالها بمنازل عصرية، أو تحويلها إلى مخازن أو ورش عمل .
وأشار الشبلي إلى ضرورة أن تولي الدولة اهتمامًا كبيرًا بهذه المناطق الأثرية، التي تعتبر جزءًا مهمًا من تاريخ العراق، وألهمت بسحرها الأدب العراقي والإبداع الفكري والمعرفي .

تغنى بها الكتاب والشعراء
ويتابع : يذكر أن الشناشيل وردت في الكثير من القصائد والقصص والروايات، وربما في مقدمتها قصيدة الشاعر العراقي الراحل بدر شاكر السياب (شناشيل ابنة الجلبي ) .. كما جُسّدت في اللوحات التشكيلية والأعمال النحتية أيضًا، ناهيك بالصور الفوتوغرافية، التي قدمها الكثير من الأدباء والفنانين العراقيين.

بداية ظهورها ؟
ويرى الفنان محمد صالح العبيدي أحد المختصين في فن العمارة البغدادية، أن الشناشيل ظهرت لأول مرة في العراق في مدينة البصرة في القرن السابع عشر الميلادي، متأثرة بمثيلاتها التركية والهندية. وانتقل هذا الطراز الجميل إلى بغداد وبقية مدن العراق.
وقال العبيدي في إن الشناشيل تمثل مزيجًا بين الفن والعمارة والحضارة، التي خلدت إرثًا معماريًا جميلاً، وإن الشناشيل على اختلاف تصاميمها، تمنع دخول أشعة الشمس بصورة مباشرة إلى المنزل، ويتم ذلك بواسطة النوافذ ذات المشبكات الخشبية المثلثة، فضلاً عن توفيرها الظل للزقاق أو الشارع ، وبذلك كانت طريقة مناسبة للتخفيف من حرارة البيوت في المناخ العراقي الملتهب صيفًا ..وأضاف العبيدي أن الخشب الذي يشيّد منه الشناشيل أسهم في التخفيف من وزن الأبنية، كما أن سهولة التعامل مع الخشب في مجال العمارة والنقوش أدى إلى تنوع أشكال الشناشيل ومحتواها حسب ذائقة أهلها وما أبدعته أنامل وفكر الفنان البغدادي والعراقي في إرضاء ذائقة المجتمع العراقي المتنوع، وإن وضع الشناشيل في الطابق العلوي من المنزل أدى إلى تقارب سكان بيوت الشناشيل، بحيث يسمح للعائلات بتبادل التحيات والأخبار وشتى الأحاديث من خلالها، مما أثر على تقارب العلاقات الاجتماعية فيما بينهم .
تمتاز بنوع من الخصوصية
وأوضح العبيدي بأن الشناشيل تمتاز أيضًا بنوع من الخصوصية، إذ تمكن أهل الدار من النظر إلى الخارج وليس العكس ، إلا أنه يحذر أيضًا من أن زحف العمارة الحديثة مؤخرًا بدأ يشكل تهديدًا متناميًا للشناشيل، وقد يفضي في نهاية الأمر إلى اندثارها .من جهته، قال الخبير في التراث العراقي الباحث عادل العرداوي إن الشناشيل في البيوت البغدادية التراثية تمثل بالنسبة إلى العاصمة بغداد شخصيتها التاريخية والعمرانية، لأنها تجسد التقاليد المتوارثة من الماضي وتبقى إرثًا للأجيال القادمة.. وتعتبر الأساس للهوية الوطنية والمحلية، لذا من الواجب السعي إلى تهيئة الدراسات والمستلزمات الضرورية لوضع الخطط السريعة لتطوير مناطق بغداد عمرانيًا بما يتطلبه إبراز الجوانب الحضارية لهذه المدينة التاريخية العريقة، والحفاظ على ما تبقى من القيم الفنية والجمالية للعمارة البغدادية، لا سيما شناشيلها الرائعة، وإعادة صيانتها وترميمها ورصد واقع الارتقاء بها وإبراز الجوانب المشرقة منها، لتعود العاصمة بغداد إلى جمالها وألقها العمراني الذي تميزت به لقرون عدة، وبالخصوص الأحياء القديمة منها: كالكاظمية، والأعظمية، والشوّاكة، والكريمات، والبتاوين، والفضل، وباب الشيخ، والمهدية، وأبو سيفين، والجعيفر، والرحمانية، وحي التوراة، وغيرها، وشوارع الخلفاء، والكفاح، والشيخ عمر، وحيفا، وشارع الرشيد الذي يعتبر من أقدم وأشهر شوارع بغداد التاريخية وأحد أهم مراكزها التجارية، حيث ترك هذا الشارع بحالة يرثى لها منذ عام 2003 وإلى يومنا هذا، على الرغم من موقعه المتميز بالإضافة إلى أنه كان يُعد الشريان الرئيسي للعاصمة بغداد إضافة إلى غيره من المحلات (الحارات) والشوارع والأزقة التي أهملت خلال العقود الأخيرة .