بقلم/ أ.د. أحلام الحسن
وضعت بين يديَّ رواية يأجوج ومأجوج، وأنا أتأمل في عنونة هذه الرواية ! يا ترى ما مدى التداخل والترابط بين هذه العنونة الغريبة وبين محتوى الرواية، وبين ما بها من أحداثٍ يلعب أبطالها حتمًا أصعب الأدوار ؟!
وللوهلة الأولى تبادر إلى ذهني ظنٌّ بأنّ الرواية المثيرة العنوان تدور أحداثها حول قوم يأجوج ومأجوج ، لكن سرعان ما تطاير ذلك الظّنّ، بعد أن شدني اندفاعي المشاغب وغريزتي الأدبية العطشى للخوض في غمرات هذه الرواية، والبحث في أعماق لججها لعلّي أصل إلى السّرّ الذي يحيط العنونة بإحكامٍ حول مداراتها الأربعة ، ولربّما أجد مفتاحًا سحريًا أفتح به صناديقها المغلقة الإحكام ، وبتطفّل الأطفال الذي تملّكني شعورُهُ تركت لأناملي المتلهفة مهمة بعثرة أوراق ما في هذه الصناديق اليأجوجية المأجوجية ! .
جاءت الرواية في أربعة فصولٍ متماسكة المتن، بلغةٍ سرديةٍ روائيةٍ مترادفة، وبحبكةٍ روائيةٍ تشد القارئ بدءًا من العنونة، فلا بدّ ﻷيّ عملٍ أدبيّ ٍ روائيّ ٍ أو غير روائيٍ من مواقعَ وعتباتٍ نصيّةٍ تقف عليها سرديات العمل اﻷدبيّ ، لتحيط بكلّ جهاته وزواياه الغامضة منها ، أو البنيويّة اللغوية الظاهرة، والتي لها الدور الأكبر في تفاصيل اﻷحداث الروائية وتحديد معالمها، وأولى تلك العتبات هي عنونة العمل الأدبيّ، والذي قد يحدد لنا نوعية المتن الممتد على خريطة المواقع السّردية للعمل الأدبي، لكنّنا أمام عنونةٍ مبهمة الواجهة في هذه الرواية ! تدفعنا للفضول وحبّ الاستكشاف ؛ وتأخذنا لمحاولات الولوج فيما خلف العنونة، فالعنونة القابلة للتأويل كعنوان هذه الرواية يأجوج ومأجوج عنونةٌ مغايرةٌ تمامًا للعنونة المفتوحة، تحتاج إلى عدة تأويلاتٍ قبل الوصول لحقيقة محتوى الرواية، ومن رأي بأنّ اختيار الكاتب لهذه العنونة المغلقة يشير لتمتعه بالذكاء وبالخبرة اﻷدبية الطويلة، حيث أنّ للعنونة المؤولة طاقةٌ فنيةٌ وجاذبيةٌ مغناطيسية بينها وبين العلاقات اللسانية، فهي اختصارٌ للمتن الأدبيّ الموازي لها ، وهي العلامة البنيوية السيميائية والنواة الحية في متن الرواية، أو النّصّ الأدبي، وهي العنصر الدال على المدلولات، وإن تلبّسها التأويلُ الذي مارس دوره في الفكرة العامة أو المحورية، كما في هذه الرواية لما لها من إيقاعٍ شعوريّ ٍ فرض نفسه على المتلقي، وأوجد لديه تداعياتٍ شعوريةٍ جديرة بالإنطلاق إلى أصعب تضاريس رواية يأجوج ومأجوج ، لما حققته هذه العنونة من الإيحاء الوصفي للدلالة على المضمون والمحتوى.
بطل الرواية:
شخصية الرواية شخصيةٌ قبعت بين الخوف والقلق ، والتعجب والأمل، هالاتٌ على صفحات وجه بطل الرواية العميد العسكري المتقاعد فاضل حسن ، الملقب بفاضل الاستاذ، في فترة انقلابٍ على رأس العميد المتقاعد .
أهو في كابوسٍ ؟! أم إنها الحقيقة ، وبين الحقيقة واللاحقيقة ، وبين الذهول والرعب الذي صوّره كاتب الرواية ترتعش أفكار العميد المتقاعد من الداخل، رغم محاولات تجلّده المتكررة، ويتسرب الخوف إلى القارئ أيضًا ! .
هكذا تجعلك قراءة تلك الرواية ومطالعتها .
تصويرٌ للحدث مرعبٌ مخيفٌ، وبإسلوبٍ قويّ ٍ يشد القارئ كأنه قد رأى ذلك رأي العين !!
يداهم المتلقي، وتوجيه تهمة التأمر على قلب نظام الحكم !! وبلهجة استعطاف من العميد المتقاعد المتهم يقول فيها:
أما أنا فرجلٌ عمري يتسلق الخمسين ، وعندي من الأمراض المزمنة والخيبات ما لا أعده ولأ أحصيه .
سراديبُ مظلمةٌ لا يرى فيها بصيص نور ٍ ، هكذا يأخذنا كاتب الرواية .
حالة الرعب ولهجة التعنيف:
أنت فاضل ؟
قلتُ نعم
إرفع يديك فورًا وإلّا أحرقناك بالرصاص.
وعند إسلوب التهديد هذا نرى الرواية تأخذ منحنى الواقع الذي يشهده العالم اليوم، وتشهده البشرية ، وبتصويرٍ يحمل الأمل إلى قلب بطل الرواية قائلًا في نفسه:
لعلهم دخلوا داري بطريق الخطأ، سيعرفون ذلك بعد مضي ساعةٍ أو ساعتين، هكذا يرسم الكاتب الأمل في صدر البطل فهو العميد المتقاعد الذي أخلص في عمله، ولا يذكر أنه خان عمله في يومٍ ما .
ثم يعاود الأمل ذهنه مرةً أخرى ، لكنه أملٌ يشوبه الخوف والاندهاش والقلق والرعب الذي قد يبدد بقايا الأمل .
ثم موقف الزوجة الذي كان كالسهم الجارح في صدره، فلقد بادرته قائلةً
أنا من دعوتُ عليك !
هل هي حالةٌ من الشماتة يا ترى ؟!!
أم هي حالةٌ من الفوز عليه بعد خصامٍ استمر عدة أشهرٍ ؟!! وبعد حبّ ٍتبدد مع متاعب السنوات وشقاء الحياة ، وابتلاءاتٍ لم تكن في الحسبان !.
وفي شرودٍ ذهنيّ ٍلثوانٍ يستيقظ منه بطلُ الرواية على صوتٍ عالٍ
من الآن تسير بالأمر ، وتقف بالأمر، ولا تلتفت..
لغةٌ صعبةٌ وعنيفةٌ ومتجبّرةٌ ومتسلّطة فكيف سينجو من هذه المخالب الشرسة !!
الدقائق تمضي مثقلة ، وبقلق ٍكبير ٍ، وشعورٍ يداهم بطل الرواية فاضل ويداهم القارئ معًا خاصةً إذا ما رجعت ذاكرته لأيام ٍ سوداء ، عانى منها كثيرا ،ولعله هو أيضًا ممن عانوا مثل ذلك .
وعلى جرس الانتباه الذي رنّ بصوتٍ مفزعٍ وبلهجةٍ يشير بها الضابط لطلب الرشوة قائلًا لبطل الرواية:
الذي على شاكلتك يدفعون مئات الدولارات حتى يخفف عنهم، وهكذا تزداد الحيرة لدى فاضل !! إنعدام القانون .. تهم .. رشوات .. ومن أين له بالمال ؟!
وبغرفة التعذيب مع المحقق دارت الدوائر على فاضل وبإسلوبٍ مثيرٍ لدى الكاتب، وبعبقريةٍ فذّةٍ ترقص عليها عفاريت الجن والإنس يصوّرُ الكاتب المشهد .
لدى القاضي :
نعم سيدي قبضنا على المتهم فاضل الاستاذ الذي كان يعلو بكلامه على السيد الرئيس والحكومة، وبين القاضي والمحقق علوان يرسم المؤلف فيها أصعب المواقف الحرجة.
وبزجرةٍ اهتزت لها نوافذ الغرفة وكاد سقفها أن يسقط على الرؤوس ، يصرخ المحقق علوان في وجه بطل الرواية أخرس اخرس أما علمتَ أن بقاءك على قيد الحياة مرهونٌ بهذا الرجل ، وبأسلوب ٍ روائيّ ٍ يثير الدهشة والرغبة لدى القارئ لينبش في خفايا الرواية مرةً أخرى ، ماذا يا ترى بعد الساعات المخيفة التي تتراءى للقارئ صورُها المرعبة ؟! والتي صوّرها المؤلف أمامه كأنها الحقيقة المرة فينسى نفسه بأنه مجرد قارئ ٍ لا متهم !!!!!
ساعاتٌ تمر وأيامٌ صعبةٌ تمر على فاضل يسأله الحارس الموكلّ بحراسته ألك حاجة مع أهلك أو وصية ؟
سؤالٌ كاد أن يقتلَ فاضل في مكانه قبل أن يصدر حكمٌ عليه، ينفض بقايا الغبار عن الذاكرة يستفيق فاضل فورًا من رقاد الأمل الذي أوقظه سؤال الحارس منه وحركاتُ الجنود الذين حوله ، والذين يعلوهم الزهو والغرور ليجد بطل الرواية نفسه كسمكةٍ في شباكٍ لا تستطيع الخروج منه، وبين استدراج النقيب أمجد ولطفه ولغة الاستكبار لدى المحقق علوان الذي هو في عنفوان شبابه الثلاثيني ، وبتحقيقٍ يزيد في دقات قلب فاضل يصوّر المؤلف الواقعة تصويرًا حضوريًا كأنه المتواجد معهم ! بل لعله كان متواجدًا هكذا يخيل للقارئ !
سيدي لا أدري أهذا السبب الذي حملتموني من أجله أم أنّ هناك تهم أخرى ؟ ويأتيه الجواب وهل تعتقد أن هذا السبب لوحده بسيط !!؟
أنت تدعو إلى تغيير النظام ، ونرى قدرة الكاتب ومدى مرونة قلمه واحتفاظه بأعصابه و هو يكتب هذه الروايةَ المثيرة للخوف والتي تحتاج إلى قلبٍ قويّ ٍ يحتمل كتابتها ، حيث أن من مميزات الكاتب الروائيّ أن يعيش في روايته كأحد أبطالها دائمًا فيخرج من واقع حياته إلى خيال روايته ، أو حقيقة رؤيته، يعيش فيها كمتهمٍ .. كبطل .. كمراقب .. كضيف .. كشخصيةٍ مندسّةٍ تعيش بين أبطالها، وتعيش أحداث الرواية بكلّ تفاصيلها وحذافيرها ، وتشاهد ما يمر فيها جليًا .
ما أصعب أن يكون المرء روائيًا يكتب رواياتٍ هكذا، رواياتٌ أشبه ما تكون بالروايات البوليسيه، رواياتٌ لا حبّ فيها ، لأ عاطفة فياضة تبعث الدفء، ولا حبيبة أو أنيسة، ولا من ذلك كله ، حتى الزوجة كانت تعلوها عباءة الشماتة !!
إن مثل هذه الرواية الشديدة الوقع في النفس ،ومثل هذه العبارات القاسية، وهذه النبرات الصوتية الحادة على شفتي كاتب الرواية تجعل القارئ بعد أن يستفيق من نوبة صرع الرواية وينتفض من حالة اللأ وعي لحالة الوعي وكأنه قد خرج من بطن حوت يونس ! أنه أمام كاتبٍ قديرٍ وروائيّ ٍ مثيرٍ يعرف جيدًا كيف يوجّه قلمهُ ، وعلى عبارة « ما أشد ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وما أشدّ وقاحته وما ألعن رغباته الدنيوية السخيفة الزائلة « تعاود نوبة الرواية ذهن القارئ تشده صارخةً للبحث والنبش عن مصير بطلها !
في المحكمه..
نزلتُ في باحة المحكمة .. الشمس تعلو.. والسماء صافيةٌ ونسماتٌ ربيعية طيبة تهبّ .. الناس هنا كثر يتحركون في اتجاهات شتى وقلبي يدق وفكري مشتتٌ ، بهذه العبارات يطلّ بطلُ الرواية بساحة المحكمة ، فالكلّ على أهبة الاستعداد بما تأتي به الاقدار البشرية المصطنعة على بطلٍ مقيّدٍ بالحديد .. أجواءٌ غريبةٌ مشحونةٌ بالتوتر، وهناك فتاةٌ تأتمر بأوامر الرئيس، متوثبة وبيدها قلم هكذا يصور الكاتب الموقف، ودقات قلبٍ يكاد يقفز من بين ضلوع فاضل حاملًا مشعل الأمل وعباءة الاستسلام للبقاء بالسجن !!
خطان لا يلتقيان !
ما أصعب الأمور عندما يمتزج الأمل مع الاستسلام !
وهل يلتقي الأمل مع الإستسلام في قلب رجلٍ واحد ؟!!
هكذا شاءت الظروف على فاضل ذلك المسكين الذي لم تكن جنايته سوى بضع عباراتٍ بسيطةٍ هنا وهناك يعبّر فيها عن مشاعر المواطن المثقل كاهله بأعباء الحياة الشاقة، وضيق المعيشة، وقلة ذات اليد ، وفي عالم ٍ تتضادد فيه أفكار فاضل ويدور رأسه وكأنه يلتطم بجدران المحكمة، وفي هذه المتاهات الفكرية يفاجئنا كاتب الرواية بلسان العميد المعتقل قائلا :
السيد رئيس هيأة الإدعاء العام إني أرفض إذا سمحت لي مقترح الإفراج وأطالب بالبراءة أو الإبقاء مدى العمر في قاعة التوقيف التي جئتَ منها ، لقد عرفت في ضوئها حرمة هذا البلد، وما يريد منا من تضحياتٍ كبيرةٍ حتى يستقيمَ امره ، وسأكون أول الذين يضحّون في سبيل ذلك، بهذه الكلمات يختتم بطل الرواية فاضل دفاعه عن نفسه ، وبهذه الروح الوطنية أيضًا يختتم الكاتب روايته زارعًا في النفوس حُبّ الوطن والإيثار، والتجاوز عن الصغائر ، من أجل سلامة وطنه واستقراره .
لقد جعل المؤلف منّا أعينًا تدور .. تترقب بقية الرواية، وختام تلك الأحداث المريرة التي مرت على فاضل بطل الرواية طيلة أشهر اعتقاله، وضنك السجن وما لأزمه من تحقيقاتٍ أرهقته.
وتتوقف المرافعات داخل قاعة المحاكمة ، وتغلق الأبواب الخاصة بها ، ويغادر الجميع ساحة المحكمة بما فيهم المتهم ،ولم يتبق فيها غير الهيأة الإدارية من القضاة للتشاور وإصدار الحكم الأخير على فاضل الاستاذ !!
وفي هذه الأثناء يصوّر الكاتب حالة فاضل الذي حاول أن يتمالك أعصابه قدر ما يستطيع، وبقلم كاتب الرواية على لسان فاضل :
« عندما أعادوني لقاعة المرافعات، والشرطي يلازمني، كان كل شيءٍ صامتًا ينظر في القاعة بترقب وبحذر..
وقد دقت ساعة الصفر بماذا سيكون الحكم النهائي على العميد فاضل ؟
وتحتبس الأنفاس يصدر رئيس المحكمة قرارها باسم الشعب الافراج عن فاضل حسن محمد الملقب بفاضل الاستاذ حسب الماده كذا بدلالة المادة كذا لعدم كفاية الأدلة، واحترامًا لحرية الرّأي والرّأي الآخر، حينها يفاجئنا المؤلف بصرخة المتهم فاضل في قاعة المحاكمة:
يعيش العراق ، يحيا العدل، يسقط الطغاة والمجرمون، اللعنة على صنّاع الطغاة.
بهذه العبارات الوطنية المنطلق من حنجرة فاضل بطل رواية يأجوج ومأجوج
يختتم الكاتب والروائي المثير الدكتور فوزي الطائي روايته هذه تاركًا لنا محطاتٍ نعتبر منها ، وأخرى نغادر منها ولكن لا ندري إلى أين ..