يكتبها : محمد فيض خالد
لم أكَد استقر لأسبوعٍ في المَسكن حَتّى تراءت الأحداث سراعا، لم يكن لي بهِ سابق معرفة، فكلّ ما اتَذكره أنّه من تلك الزُّمرة التّي سَبقتنا لهذه الغُربة الطَّاحنة في بلادٍ بعيدة ، انتحرَ فيها شبابنا ، ووئدت أعمارنا تحت أطباق الليالي الكَئيبة ، وأسبقية الغُربة تلك ميزته وجماعته ليس إلَّا، اعرف عنه اهتياجه ، وتَقلّب مزاجه ، ونرجسيته التي جعلت منه شَخصا عُدوانيا ، يستدعي قوة بدنه بدل لسانه عند الكلام ، فعند محادثته تشعر وكأنَّك قد اصطدمت بجدارٍ.
كانَ ساعتئذٍ على أعتابِ عَقده الخامس ، لكنَّه يَلح في احتجازِ الزَّمن ، أن يتوقف رهن رعونته وتصابيه ، فلا يخلو يومه من جِلسةٍ طويلة إلى جوارِ النَّافذةِ ، يعمل الملقط في سحنته المصفرة ، يأخذ منها بعض شعرات نبتت في خده الأسيل ، يُدير يده في تمَرسٍ ، ونظراته المكروبة لا تحيد عن مِفرقِ رأسه المشتعل بالبياض.
يمُصمص شفتيهِ الغِلاظ في استعبارٍ ، ويزممّهما في تأسفٍ ، يُخرِجُ من صَدرهِ آهة مكتومة ، قائلا في عويل :» آه يا ومن يا خسارة الجدعان».
لازمتُ الصَّمت لأشهرٍ قلائل ، قبل أن يصيبني من هوسهِ ما أصاب من سبقني ، غير أن نويات الضّحك العَفويّ من أحاديث الصَّبابة الَّلزجة ، تُغالبني فتزيل عنّي بقية من مَهابةٍ كُنت احتفظ بها ، ربما لفارق السِّن بيننا ، أو لأنَّنا أبناء بلدة واحدة ، أو لأننَّي تَعوّدتُ هذه الخصال ، بيد أنَّي لم استطع عليه صَبرا ،فكانت تَنتابني مَوجات مُتقطِّعة مِن الضَّحكِ الهستيريّ ، خاصةً بعد إذ استذلته شهوة الكلام ، فاندفعَ كمراهقٍ غِر مُنتشيا يُعدِّد مزاياه ، التي أوقعت زوجته في شؤم غرامه ، كُنت على بينةٍ من هذه المسألة ، فقد أُكرِهت المسكينة على الزواج منه، بعد عَذابٍ أوصلها لحافةِ التَّهلكة .
كانَ دائم التَّمرد على ثقافتِه الضّحلة ، التي لا تتعدى في أحسن حالاتها العُكوف على مشاهدة نشرات الأخبار ، وبرامج عالم الحيوان ، وقنوات روتانا ، أو ربما التَّعثر في تَعتعةٍ ممُرضة ، لقراءةٍ لا تجُدي في صَحيفٍة قديمة ، ينوي فرشها للأكل.
اعتدل يوما في جِلستهِ ، َمرّر يده فوق شاربهِ المسنون ، وبنظرةٍ باردة تخلو من لياقة ، رماني دول اكتراث قائلا :» ما هي شهادتك؟»، حدجني بعينٍ ماكرة مُحاولا الانتقاصَ من شأني ، لكنيَّ لم افوّت الفُرصةَ على الألمعيّ الفَذّ، قلت له ترضية لنفسه :» في هذا الزمان العقيم التعليم لا يساوي شيء « ، هزَّ رأسه لتَذوب مَلامحه في ابتسامٍة بلهاء ، قائلا في رضا :» صحيح.. صحيح» ،كانت أحواله المادية تَهبه الثِّقة لأن يتَحَّدى أرباب الشَّهادات أمثالي ، ويعقد بينه وبينهم المقارنات بغيِر مُناسبةٍ ، يَترصّدهم في تَحدٍّ مشبوب باستهزاء ، وكأن لسان حاله يردد :» ماذا أغنت عنكم شهاداتكم غير البَهدلة في الغُربة «، نَصحني أحد الخُبثاء نصيحة ذهبية ، أن أسايره ما استطعت ، فلا أُكلِّف نفسي حِينئذ مَشقة فرط بلاهته ، وقد كانَ، حتّى توثَّقت الصَّداقة بيني وبينه أو كادت .
ضَمن له سَفره المُبكر راتبا معقولا بأحدِ الدوائر الحكومية ، أسَبغَ هو على وظيفته بمرور الوقت طَابعا خَاصا، أوهم ضَحاياه بأنَّه نافذ الصِّلة وكبار المسؤولين ، لاحقا لم أجد في مُخالطته مَشقة تذكر، بل وجدتني أمام إنسانٍ ناقض ، يَسعى للَكمالِ بقدرِ الَّنقص الذي فيه ،فهو ضحية بين نفسه المُحتّرقة المُسلطة عليه ، تُشعره بالعَجزِ وعَدم الكِفاية ، وواقع يأبى إلاَّ الاعتراف بسطوة المال ونفاذ أهله.
جَمعتنا جِلسة ذَات ظهيرة ، ألقى إليَّ بوسادةٍ ، قَرَّب مني طبق التسالي ، تَنحنح في افتعالٍ ممَجوج ، قائلا :» لو عُرِضَ عليَّ وظيفة براتب لا يقل عن خمسة آلاف جنيه ، عندما يمكنني التفكير في السفر»، شعرت بصوت كركبة ، تلاحقت خطواتي تجاه الحَمام ، لكنّني اكتشفت أنّ الصّوت يَصدر عن رأسيّ المُتشنج ، أمام المرآة أخذت نَفسا عَميقا ،عُدت إلى مَجلسي صَامتا وكأن شيئا لم يكن ،استحضر في عَذابِ ذِكرى من سبقني لهذا المُنحدر.