اربيل / فريد حسن
المصادر والمراجع التي تناولت الحرف اليدوية والمنتج المحلي في اربيل قليلة الا ما كتبه واستجمعه الكاتب محمد سعيد كوردة في كتابه المعنون (جارى جاران ) وكتاب للباحث (أسعد عدو ) بعنوان ( ليره من خزائن الامة الكوردية الصادر عام ١٩٨٧ مما يبعث ذلك الى اعادة النظر في الامر ولابد من اعادة كتابته استذكارا للاحفاد بان الاجداد انما كانوا عاملين مجدين منشغلين بالعمل لايجاد قوتهم اليومي وبالكسب الحلال كما كانت لبعض من هذه الحرف دورها في البناء وتطوير وسائل بناء المساكن والعمارات فبدلا من الطين المخلوط ( بالتبن )من بقايا الحنطة والشعير في البناء تطورت الامور الى البناء باستخدام الكورة لانتاج (اللبن) او (اللبنة) اي مايسمى الطابوق وباللهجة العامية تسمى ( الطابوكَة) وعليه فان العاملين في مهنة الكور اضحوا يسمونهم الكورجية وتعني العاملون المشتغلين في الكور لانتاج الطابوق وفي اربيل كان لهم دورهم الكبير في اعلاء البنيان من خلال تهيئتهم طابوق البناءواغلب البناء في اربيل من الابنية المتوزعة في القلعة التاريخية والاحياء القديمة في محلة العرب القديمة وخانقاه وطيراوة وتعجيل وسعدوناوة انما كلها مبنية من الطابوق المنتج من قبل كوره جية اربيل الذين كانوا يعملون بجد وفي احلك واصعب الظروف .

عشرينيات اربيل
يقول عبدالله خورشيد ولي المعروف ب ( العم عبده ) واحد العاملين منذ بداية العمل في الكوره انه في العشرينيات وعلى وجه الخصوص بعد الحرب العالمية الاولى وفي محلة (التعجيل) كان لاهل الكور تواجدا وما زالوا فكانوا يحملون التراب من موقع (كَلكند) التي اصبحت الان موقعا للسياحة واستراحة العوائل الاربيلية وحديقة غناءة فكانوا يحملون منها التراب لينقلوها الى مواقع الكور لانتاج الطابوق .

رحلة الشتاء والصيف
فيما حدثنا ( عرفان أحمد سليمان ) الذي عمل منذ نعومة اظفاره في الكور وصناعة الطابوق وهو الان يُعد من المعمرين بالقول : بدأ العاملون في مهنة انتاج الطابوق المحلي بوسائله البدائية ولكن بشكل متقن والدليل على ذلك لم تزل بيوتات اربيل والمبنية من الطابوق المحلى على حالها منذ عشرات السنين بل هنالك بيوت تم بناؤها في العشرينيات من القرون الماضية غير انها لم تزل قائمة شامخة ولكن بعضا من تأثيرات الزمن والطبيعة قد اصابتها وافقدتها جماليتها ورغم ذلك بقيت واصبحت منتجعات وجزءا من الفولكلور والتراث .لنعود الى رحلة الشتاء والصيف فيقول عن ذلك ( هاشم جمعة بيرداود ) اعتمد العاملون في هذه المهنة على نظام (النمل) حيث يقوم النمل بجمع الحطب والمؤن لاستخدامه في فصل الشتاء وعليه فكان الامر كذلك حيث يقوم الافراد العاملون في هذه المهنة الى جمع التراب ونقله بواسطة الدواب في فصل الصيف وتجميعها عند مواقع الكور وحفظها في مخازن خاصة ولاستعمالها في فصل الشتاء حيث موسم ممارسة المهنة وصناعة الطابوق .

( اصول الكورجية )
وكما يورد ويفول الباحث في اصول العشائر وتراث اربيل الكاتب والباحث ( أسعد عدو) :ان العمل في الكور وانتاج الطابوق الطيني من اقدم المهن في مدينة اربيل وان العاملين فيها معروفون بالكورجية نسبة الى عملهم المتقن في الكور لانتاج الطابوق الحجري وكان لذلك اثره الواضح في اعمار مدينة اربيل وإقامة وبناء المنازل حيث شهدت احياء القلعة والمنارة ومحلة التعجيل وخانقاه والعرب القديمة البناء بالطابوق المنتج من كور الكورجية التي عرفوا بها .
ويشير الباحث أسعد عدو بالقول :كان ولم يزل للكورجية مضايف ومجالس يتناقشون فيها الامور ومجالس سمر واغانٍ من طور ما يعرف ( اللاوك) وهو نوع من اصول الغناء التراثي الكوردي تكون على شكل قصيدة مغناة باربعة اشطر ليتحول الى نغم اخر وقافية جديدة مع الاحتفاظ بالوزن الشعري وكانت هذه الاغاني تعبر عن رجولة وشجاعة وكرم ونخوة الكورجية ومنهم العم ( كريم ) الذي سخر كل وقته من أجل حل المشاكل العائلية وما كانت تشهدها العشائر من اختلافات حيث كان العم كريم مبدياً النصائح ومقدما الارشادات ليعم السلام قلوب الناس وعليه فإن مضيفه كان قبلة للجميع وخاصة في الليل حيث كانت العشائر والافراد يتجمعون في مضيفه وهو يقوم بدور القاضي العادل وان العم كريم هو اخ المرحوم العم ( رشيد الكوره جي ) وكان له اربعة وهم ( عباس وفاروق وشيرزاد وزوراب ) وان العم عباس وهو الابن البِكر للعم رشيد كان رجلا معروفاً وقائما على خدمة الناس ومقدماً للمعروف الى الجميع وصوت الحق عنده لايعلو عليه صوت وكان حريصا على الوقوف الى جانب المحتاجين ومدافعاً عن المظلومين وكان له علاقات واسعة مع اشراف اربيل فيما كان بيته بمثابة مضيف فكان محبوبا واهل اربيل واطراف المدينة كانوا يأتون لزيارته وان للعم عباس اربعة ابناء وهم ( المرحوم ولي ، الحاج محمود ، الدكتور سعدالله ، العميد الحقوقي خالد ) وهؤلاء الابناء حافظوا على تراث ابيهم ومازالوا يقدمون الخدمة للناس ولاربيل وحفظوا العهد وهم من يديرون مضيف الكورجية حيث يستقبلون الشخصيات الاربيلية وغيرهم في المضيف كل يوم جمعة وتراهم يتداولون الامور بمحبة مع استذكار لشخصيات اربيل وحلاوة العلاقة بين اهلها .
ويذكر الباحث ( أسعد عدو ):
حادثة تاريخية فيقول كانت هنالك علاقة قوية بين الكورجية وباويل اغا فيقول :عندما أقدم صباح نوري باويل اغا على اطلاق النار على اسماعيل بك رواندوزي واصابه بجروح والحادثة وقعت بالقرب من صالون حلاقة ( ابراهيم الحلاق ) والمعروف في اربيل ب ( ايبو بربر) فان صباح نوري يختبيء في بيت كريم كوره جي القريب من موقع الحادث لان خديجة بنت العم كريم هي زوجة نوري ابو صباح وهنالك صلة رحم بينهما وبعد ذلك يقدمون للمحاكمة وفي بيت (ملا افندي) يتم الصلح بين العائلتين .

(ديوان ومضيف الكورجية)
وفي حديث معه قال العميد الحقوقي ( خالد عباس كوره جي) قمنا وبالتعاون مع عدد من ابناء عمومتنا الى اعادة ديوان ومضيف العشيرة وجريا على العادات القديمة الاصيلة من اجل ادامة الصلة بين ابناءنا واحفادنا كما ومن مهمتنا ايضا العمل وفق الامكانات المتاحة لمساعدة المحتاجين ضمن تكافل اجتماعي في الحالات الطارئة وهذا وكما نعتقد يجسد صلة الرحم ويعزز من المحبة .وان ديوان الكورجية هو بيت تراثي قديم يتم فيه اللقاء بين الاهل واستقبال الضيوف واشار ان كل يوم جمعة يشهد الديوان تواجد ابناء العم وزيارات من قبل الشخصيات الاربيلية ومن العشائر حيث الاحاديث وسرد الذكريات عن اربيل واهلها واصولها .وشاركه الحديث ( رشاد فاريق) بقوله ان ديوان الكورجية تقع وسط محلة تعجيل وهو مكان ارتأينا ان نعيده من اجل التلاقي وليكون مزارا يجمعنا وعنده نلتقي بالزوار من العشائر الاصيلة كما ونتباحث فيه امور العشيرة وتبادل الاراء وقد عملنا
مع عدد من ابناء العشيرة الى اعادة ديوان الكوره جية والتي تقع وسط حي التعجيل وليكن مكاناً للقاء الشيب والشباب واعادة حديث الذكريات بل ان الديوان اصبح مزارا لجميع العشائر في لقاءات ودية تشهده كل يوم جمعة .

مهنة الكورجية
ويقول ( جاسم كريم سليم ) انه ومن الاولى معرفة ماهية هذه المهنة ووقت ظهورها ومن هم اوائل الذين عملوا فيها وكيف كانوا يمارسون هذه المهنة الصعبة فالكورجية هم العاملون في الكور لصناعة الطابوق عن طريق كوره بدرجة حرارة عالية وكانوا يعانون من صعوبته وقد اسهموا في العمران وان اغلب الابنية والعمارات القديمة تشهد على ان الطابوق المستخدم هو من الانتاج المحلي للكورجية .واضاف :وهنالك اسماء كثيرة ممن عملوا في هذه المهنة وابدعوا فيها واشتهروا ولمعت اسماءهم ومنهم ( رجب كوره جى وكريم كوره جى وكان لهما مضيفا لاستقبال الضيوف القادمين من خارج مدينة اربيل كما وهنالك اسماء اخرى ومنهم ( رفعت ويسي وفتاح نعمان ومطلب صوفي وشهاب سليمان وحيدر وعباس كوره جي وخالص كوره جي وصمد كوره جي واخرين .

سعر الطابوق وسعر الذهب
أما ( هاشم امين ) فيقول سأحدثكم عن شيء لربما تستغربون فقلت وما هو قال لاتستغرب اذا ماقلت لك ان اسعار الذهب والطابوق المنتج محليا كانتا متساويتين ففي عام ١٩٧١ كان مثقال الذهب ب (٣) ثلاثة دنانير وفي نفس الوقت ارتفع سعر الطابوق من ( دينار وربع ) الى (٣) ثلاثة دنانير
واضاف : لم يتوقف عمل الكورجية على صناعة الطابوق بل تعدى ذلك الى صناعة الفخاريات ( الكوزه، واواني الماء والتي تسمى محلياً ( الشربه او الكوب) اضافة الى فخاريات لزراعة الورود .

جامع الكورجية
جامع الكورجية يعود بناءه الى الاربعينيات من القرون الماضية وبناه الحاج خورشيد امين ايتان كوره جى بالتعاون مع ابناء محلة تعجيل وبالاخص الكورجية منهم وقد تم اجراء التحسينات عليه على نفقة الحاج رمضان كاروانجي والسيدة صبرية عبدالله وهاب ولم يزل الجامع قائما منتصبا شامخا يحتل بقعة كبيرة مطلاً على الشارع العام في محلة تعجيل وبجنابته وامامه عدد من الدكاكين لاصحاب المهن منهم النجارون وكذلك تزدحم بكثرة المطاعم للمشويات وتشهد محلة تعجيل ازدحاما كبيرا في الليالي حيث المقاهي والمطاعم وبالاخص في شهر رمضان المبارك حتى العوائل تراها زائرة لهذه المحلة وتطلب المأكولات الشهية وفي فصل الشتاء تشتهر مطاعمها بأكلات الزرازير بانواعها وكذلك تجد عربات الشلغم والباجلاء حيث تباع وهي حارة لتعطي دفئاً لاكله .

الكورجية اهل كرم وعطاء
اما الدكتور سعدالله عباس رشيد كوره جى / الاستاذ في كلية التربية وعلوم الرياضة بجامعة صلاح الدين فيقول :ان الكورجية أهل كرم وعطاء وجود وقد تميزوا مذ وجودهم بتعاونهم مع الجميع وكانوا من بناة اربيل والمساهمين وباخلاص في اعلاء صرح المدينة وان اغلب البيوتات وخاصة في الاحياء القديمة مثل القلعة ومحلة العرب وخانقاه وطيراوة وتعجيل لم تزل تشهد ذلك حيث ان بناءها من الطابوق المنتج محليا من قبل العاملين في الكور وقد ظلت الامور كذلك حتى اعوام الثمانينيات حيث اقامة معامل الطابوق الفني من قبل الدولة وباشراف وزارة الصناعة والمعادن في حينها .
ويضيف : وجريا على العادات القديمة ومن أجل ادامة الصلة مع ابناء العشيرة وتبادل الاراء والمواقف فقد تم اقامة دار ضيافة في محلة تعجيل لتجمع ابناء العمومة وللوقوف مع من يحتاج المساعدة ضمن تكافل اجتماعي وللحالات الطارئة وهذا ما يجسد صلة الرحم والمحبة والتاخي .

مواقف طريفة
وهنالك مواقف طريفة ومن ذلك وبما ان الناس كانوا سذجا والامية غالبة على المجتمع في الاربعينات ومن باب الطرفة لكنها قصة حقيقية حين ان احدهم من الكورجية قد تم طلبه لاداء خدمة العلم ( الخدمة العسكرية ) وكانت سنتان فكان وحدته في لواء الديوانية ولسذاجته ومسكنته لم يعد الى اهله طيلة السنتين حتى انتهاء خدمته وعندما كان يطلب منه التمتع بالاجازة لزيارة اهله كان عذره انه لو عاد الى مدينته فلن يعرف العودة ثانية الى وحدته العسكرية في الديوانية وهكذا قضى ايام خدمته في الديوانية لسنتين متتاليتين دون التمتع باجازته .