بقلم- امل ناصر
في كتابه الموسوعي الجديد الصادر عن الدار العربية للعلوم -ناشرون تحت عنوان « البيئة والإنسان ، من براءة البدائية الى وحشية المدنية المُخادعة « يتصدى الدكتور نزار دندش لأهم الأزمات البيئية-الثقافية-العلمية-الفلسفية-الأخلاقية التي يواجهها العالم اليوم .ويجيبنا عن أسئلة وتساؤلات رافقت الإنسان على امتداد تاريخه الراشد . هو يُفسِّر لنا سببَ مشاعر العداء التي يكنّها كل كائن تجاه الكائنات الأخرى . وهو يرى أن الإنسان مرآةٌ لهذا الكون وأن الكثير من الظواهر الطبيعية لها ما يشبهها عند الانسان . ولا عجب في ذلك فالله « قد خلق الإنسان على صورته».
كما يرى مؤلف الكتاب ان الكائنات الحية ومنذ وجودها الأول على هذا الكوكب داخلة في تفاعلات دائمة ترقى في كثير من الأحيان الى مستوى الصراعات . ومن هذه الصراعات ما هو طبيعي ومنها ما لا لزوم له .
وجواباً على سؤاله من نحن ؟ يجيب : «نحن جزء من نموذجِ حياةٍ ما زال سائداً على كوكب الأرض ، نموذج لا يحيا فيه كائنٌ حي إلا إذا أفنى آلاف الكائنات الحية الأخرى لأنه يستخرج غذاءهُ منها ويحيا على حسابها ، نموذج شعاره : كلٌّ يأكلُ كلاً على هذه الأرض ، علماً بأن هناك قلّةً من البشر قد ارتفعت الى مستويات لافتة من الإنسانية بحيث ان افرادها قد تخلّصوا الى حدٍّ كبير من عدوانيتهم تجاه الكائنات الأخرى وراحوا ينادون صدقاً بالمحبة والرحمة والعدالة وتقبّل الآخر»
يُكرّر الكاتب في عدة أماكن من كتابه فكرةً مفادها أن كوكب الارض ملكٌ لكلِّ كائناته وأن الحياة عليه لا تتمُّ الا بتفاعل هذه المُكوّنات ، فالنباتات مثلاً تحوّل المواد «الجامدة» الى أجزاء من مكونات المواد الحية في الطبيعة وتُعوِّض عمّا تمَّ استهلاكه . الطيور تقوم بمهمة التلقيح ونشر البذور الى جانب النحل والفراشات .حتى الحيوانات المفترسة التي يقول المؤلف ان الإنسان قد تتلمذ على يدها في بداية وجوده على الأرض تلعب دوراً مهماً في ضبط التوازن البيئي كي تبقى المراعي والمساحات الخضراء ، علماً بأن بعض الحيوانات مختص بتنظيف البيئة من الجِيَفِ والنفايات .
أما الانسان الذي تميّز عن غيره من الكائنات بالتسلح بالعلم فقد جيّر العلم لمصلحة التنكيل بالبيئة مُغيِّراً وجه الكوكب ، متلاعباً حتى بجينات كائناته ومُستعملاً العلم لتطوير الأسلحة التي تهدّد بفناء العالم على كوكب الأرض .
وبعد عرضٍ لسيرة كوكب الأرض الجيولوجية وتتابع ظهور الكائنات الحية على سطحه وعرض لدور هذه الكائنات في تشكّل ما نسميه اليوم بيئة الأرض انتقل المؤلف الى سيرة الوعي عند الانسان الذي غدا يستعمر هذا الكوكب ، وعناصر الوعي برأي المؤلف صارت تجتمع في العلم والدين والفن والفلسفة بعد انتهاء عصر الأساطير .
الميثالوجيا كانت ممراً اجبارياً لارتقاء وعي الانسان ، والاسطورة كانت اول حقل فكري معرفي خيالي تعاطى معه عقل الانسان ووجد فيه إجابات عن تساؤلاته التي لم يجد لها جوابا .
وبعد الميثالوجيا جاءت الأديان البدائية التي فسّر بعضها الظواهر تفسيراً منطقياً ناقضاً تفسيرات الأساطير . وعندما بلغ الانسان مرحلة التدين كان قد بلغ مرحلة النضج الذهني الاول حيث صار بمقدوره ان يفكر ويحلّل ويجادل ويجد لخوفه من عوامل الطبيعة مبررات ويؤمن بوجود قوى تسبب له الخوف وقوى اخرى تحميه .
الفعالية الثانية في تاريخ وعي الانسان كان العلم الذي وضع التفسيرات العلمية للظواهر الطبيعية .
واذا كانت الأديان قد تولّت الجوانب الأخلاقية ، الاجتماعية ،والانسانية في حياة الانسان فإن العلم قد تولّى الجانب الآخر فاكتشف القوانين ودرس نشاطات الكون على اسس علمية وضبط تفكير الانسان على ميزان المنطق .
لقد نجح الانسان في مجال العلم الذي نقله الى فضاء جديد وجعله يحقق في سنوات قليلة ما حققه خلال ملايين السنين .
ويرى الكاتب في الانسان مرآةً للكون ، ففيه ما يشبه الكثير من العمليات التي تحدث على كوكب الأرض وفي حياة النجوم وسواها ، فيرى تشابهاً بين عمليتي المدّ والجزر في البحر وعمليتي الشهيق والزفير في رئتي الانسان ، وتشابهاً بين عملية تساقط أوراق الأشجار وظهور أوراق جديدة بديلة عنها وبين موت ملايين الخلايا في جسم الانسان وولادة خلايا جديدة .ويرى تشابهاً بين مراحل ولادة النجوم وحياتها وموتها وبين مراحل حياة الإنسان من الطفولة الى الممات . ويرى التشابه أيضاً بين تغيّر الطقس وتصرفات الطبيعة المتقلبة وبين مزاج البشر الذي تنتابه التغيّرات والتقلبات .
الانسان ابن بيئته التي أعطته الكثير من صفاتها وهو يشبهها ويُقلّدها .لكن الدكتور دندش يذهب أبعد من ذلك ليقول ان الإنسان ابن بيئته الكونية وليس ابن بيئته الارضية وحسب . ويقترح إدخال الشمس وبعض العناصر الكونية الى ما يسمونه المحيط الحيوي في علم البيئة .
ولأن كل العناصر الأولية في الطبيعة من ذرّات وجسيمات وجزيئات ، وكلّها تُصدر الإشعاعات فقد رأى الكاتب ان نعتبر الإشعاعات لغة الكون ، بل لغة مشتركة بين الأحياء والجماد ينطق بها كل جسم مؤلف من ذرات … ومِنَ الذرات تتشكّل كل الأجسام !
تَشَكُّلُ الوعي عند الإنسان :
يقول المؤلف إن الطبيعة نفسها قد شكّلتْ بدايات الوعي عند الإنسان . وقد تكون الخطوة الأولى في مسيرة وعيه علاقته بالطعام والشراب وشعوره بالجوع والعطش ، ولعلّ الخوف من أولى المشاعر التي ساورت الإنسان .
ويبدو ان المُنَظِّرين الأوائل الذين أفرزتهم الحياة هم الذين صاغوا الأساطير وأطلقوا فيها العنان لخيالهم . وقد ساعدهم في ذلك ان الإنسان البدائي لم يكن يطلب برهاناً بل كان ينجذب الى ما يدغدغ خياله .
وكما جاء في الصفحة 118 فإن تاريخ امتلاك الوعي الإنساني موزّعٌ على عدة مراحل تبدأ بعصر الأساطير وبعده عصر الديانات البدائية ويليه عصر الفلسفة وصولاً الى عصر العلم .
العلم والدين والفلسفة أعمدةٌ ثلاثة في ثقافة الإنسان ، ورحلة الوعي كانت طويلة ومضنية في تاريخه . كانت البداية في وعيه لوجوده وكان في ذلك باب من ابواب الافتراق عن عالم الحيوان والتفكير بدرء الأخطار . وبعد ذلك انتقل الانسان الى حقل المعرفة فكانت مغامرة الأساطير .
ولأن تطور الانسان كان بطيئاً في بداية الأمر فقد امتدّ عصر الاساطير طويلا ، ولأن الاسطورة كانت باكورة نشاطه الواعي فإن رواسبها ما زالت تتغلغل حتى اليوم في الكثير من النتاجات الفكرية عند كل شعوب العالم .
وبعد عصر الاساطير تطور الانسان على مختلف الصعد وكان للعلم الدور الحاسم والفعّال في تطوره ، فعندما تسلّح بالعلم سجّل قفزاتٍ رهيبة في سلّم التطور وراح يطوًع الطبيعة من حوله .
وبعد ان كان همّ الانسان الأول ان يحصل على طعامه وان يحمي نفسه من بيئته ، من بردها وحرّها وبرقها ورعدها ومزاجية الطقس فيها ومن عواصفها المخيفة … فإذا به اليوم بات يرى من واجبه حماية البيئة من نفسه لأنه اكتشف ان تصرفاته باتت تشكل خطراً كبيراً على بيئته .
لقد طوّع الانسان الى حدٍّ كبير بيئته القريبة فغيّر تضاريس الأرض وتدخّل في علاقات الكائنات ونُظُمِها وصولاً الى تعديل الجينات في الكثير من الكائنات الحية من نباتات وحيوانات . وقد ملأ البيئة بالمركبات الكيميائية التي لم تعهدها من قبل ولا تجيد التعامل معها او التخلص منها فأوقعها في وضع صعب .
لقد حقّق العلم المعجزات فاكتشف الكثير من قوانين الطبيعة ، ودخل الى أعماق الذرة وقرأ التاريخ مستعيناً بلغة الإشعاعات ، ودخل في تفاصيل مذهلة في جسم الإنسان واجسام الكائنات الحية ، وأدخل مركبات كيميائية جديدة ووضع اكتشافاته بتصرف التكنولوجيا التي وضعت امكانياتها بتصرف المتمولين فاستعملت نتائج العلم للمنفعة حيناً وللإضرار أحياناً أخرى حتى صار العلم يظهر بوجهين مختلفين ، بل بوجهين متناقضين ، ودخل العلم في ازمة أخلاقية . ودخلت البيئة في أزمة وجودية ووقع الإنسان في دوامة الخوف على المصير .
ويرى المؤلف « ان الطبيعة التي اعتادت ان تجدّد نفسها باستمرار وتنظّف نفسها من نفاياتها الخاصة وتطوّر نفسها ، قد وصلت الى نقطة قد لا تقوى بعدها على التجدّد والتطور وتنقية الذات ، وهنا الخطورة القصوى «
إن البيئة بحاجة الى حماية ، ولا يمكن ان نحميها الا اذا فهمناها ، أي إذا حصلنا على الكمّ الكافي من المعارف البيئية التي أثبتها العلم وصنّفها ، واذا جنّدنا أكبر عدد ممكن من البشر المهتمين بحمايتها .
نحن بحاجة الى المعارف البيئية ، الى الثقافة البيئية وإلى الفلسفة البيئية … وصولاً الى السياسة البيئية .
ولأن الأخلاق التي صاغها الانسان على امتداد تاريخه لم تلحظ في قاموسها طريقة للتعاطي مع الكائنات الأخرى وحفظ حقوقها الا فيما ندر ، فقد رأى المؤلف انه لا بدّ من صياغة فلسفة بيئية وأخلاق بيئية جديدة يضع معها الإنسان حداً لتسلّطه على الطبيعة وعلى باقي الكائنات ويعترف بأن الكائنات الحية شريكة له على هذا الكوكب وليست كائناتٍ للإستعباد .
لقد آن الأوان لتصحيح العلاقة بين الإنسان والطبيعة ؛ آن الأوان لأن نسمي من يرتكب جريمةً بحق البيئة مجرماً بيئياً ؛ وآن الأوان لأن ننتصر لأنسنة العلم وأنسنة الاقتصاد ولأن نبتكر طرقاً جديدة لممارسة الحياة .