علي حريان المُصحِّح
كان لديَّ جار وصديق، اعتدتُ على أن يأتي إلى زيارتي، نتبادل معاً الحديث المُزعِج الذي يتداوله العراقيّون في جلساتهم العامّة والخاصّة، وسائر لقاءاتهم، وهو السياسة ومشاكلها، وقد خطر في بالي ذات مساء أن أبادر إلى زيارته عملاً بالمبدأ السياسيّ-الاجتماعيّ (المُعامَلة بالمثل)!، فوجدتُ عنده ضيفاً من أقاربه، وكان ممّا عرفته عنه أنّه يدرس ماجستير في إحدى الدول؛ ولأنّ لديّ شيئاً بسيطاً من أساسيّات اللغة العربيّة عرضتُ عليه -كعادتي- استعدادي لتقديم المُساعَدة اللغويّة إليه في بحثه، لكنَّ ردَّه عليَّ كان صادماً، بل مُؤلِماً.
هل تعلمون ماذا كان ردُّه؟! قال -وليته لم يقُل-: «شكراً أستاذ، لقد أعطيتُ شخصاً مبلغاً من المال ليكتب لي البحث»، نعم، هكذا كان ردُّه؛ ولأنّي لا يحضر عندي ردُ الفعل بسرعة في أغلب مواقف الحياة، اكتفيتُ بالسُكُوت.
كان ردُّ كأنه -والله- صاعقة نزلت على أمِّ رأسي، وصرتُ في حالة من ضيق النفس، وكربة الصدر كمن يصَّعَّد إلى السماء لما وصلت إليه الشهادات العلميّة العليا من ابتذال؛ بعد أن صارت في مُتناوَل يد الأمّيين، وصار العديد منهم أستاذاً، أو مسؤولاً في مُؤسَّسات الدولة وهم بلا كفاءة علميّة، ولا مهارات عمليّة، وأصبح، وأضحى، وأمسى، وبات بلدي مُستورِداً لكلّ شيء.
لقد تطوّرت البلدان، وصنعت الحضارة لشُعُوبها، وحقّقـت الأمن على مُختلِف الصُعُد عندما أولت الباحثين والبحث العلميّ اهتماماً بالغاً، ورصدت له أموالاً طائلة، فجنت ثماره رخاءً، وازدهاراً، وقوة.
هل تعلمون أنّ مُخرَجات هذا الفعل هي إنتاج جيل جاهل فاشل، ليس له حظ سوى اللقب العلميّ الخاوي بل الخالي من مضامين العلم والمعرفة والتخصُّص؛ ومن ثم تتسع دائرة الجهل والأمّية في العراق حيث بلد الثقافة، وهم -بدورهم- سيُنتِجون جيلاً ضعيفاً علميّاً؛ لأنَّ فاقد الشيء لا يُعطيه، فتُصاب بلادنا بالوهن، وتبقى تتحرّك دائريّاً من دون أدنى تقدُّم، ونكون شعباً يتحرّك خبط عشواء لا ندري من أين نبدأ، وإلى أيّ حال سننتهي.
أيُّها الدخلاء على البحث العلميّ اخرجوا من هذا الحَرَم، فلستُم على طهارة، اذهبوا أوّلاً إلى نهر العلم، وتوضّأوا من مائه، ثم ادخلوا إليه؛ حتى يتقـبّل العراق أعمالكم.
أيُّها الجَهَلة اتركوا ميدان الدراسات العليا لأهله، ولا ترتدوا لُبُوس غيركم، فلباس أهل العلم لا يليق بغيرهم، ولسنا بحاجة لشهاداتكم التي اشتريتموها بحفنة من الدولارات.
والعراق من وراء القصد.