الكاتبة أحلام طه حسين
لن أنسى أبدأ ذلك الصباح عندما اتصلت بوالدتي، واجابتني بصوت يملأه الوجع «ابنتي! أبوك يحتضر!»
خرس صوتي ثم صرخت رافضة ما سمعته «لا تهولي وتعظمي الأمور ياأمي!
– صدقيني ياابنتي، والدك ليس بصحة جيدة، عليك الحضور فوراً.
– منذ متى تدهورت صحته؟ تقولين منذ أسبوع؟ ولم لم يخبرني أحد؟
– لم نرد أن نشغل بالك.
– عن اي بال تتحدثين؟! هذا أبي ونبض قلبي!! «
أغلقت الهاتف وبكيت بمرارة … لم أستطع ان أكتم صراخي! وبلحظة مرت أمامي صور كأنها شريط حياة أبي…أبي الذي أحبه، برغم غضبه وقسوته علي. فهو من جعلني أكتب وأعشق الكتب…. لملمت شتات روحي، وغيرت ملابسي بسرعة وانطلقت إلى منزل أهلي. لكن عند وصولي بدأت أقدامي ترتجف وتعيقني في المشي. لم أكن مستعدة لرؤية أبي مستلقٍ على السرير، ضعيف وغير قادر على المشي… صورة أبي القوي مازالت أمام عيوني…. أحسست أن باب غرفته بعيداً جداً علي بسبب ثقل خطواتي….أخيرا وصلت ودخلت وإذا بأبي ليس كما كان! تمالكت نفسي بصعوبة وقبلته، وهو لا يستطيع النهوض….
خرجت بعد ذلك من غرفه واتجهت إلى غرفة أمي والدموع متوقفة في عيوني….
«أمي هذا ليس أبي! صدقيني! هناك رجل متعب جداً! نحيل، شاحب يميل إلى الزراق… أين أبي القوي ذو العضلات المفتولة؟!
أجابتني باكية: والدك يحتضر!
– لا تقولي هذا! أبي لن يغادر صدقيني! أبي قوي! تراتيل القرآن في الفجر وصياحه علينا في وقت صلاة مسبحته التي لم تفارق يده أبداً، ضحكاته مع أحفاده، لاتقولي كلمة احتضار امامي!»
جلست معه مرة أخرى. ياالهي! هل كان أسبوع واحد كفيل بأن يجعل أبي يتغير ولاأعرفه؟! ما هي إلا لحضات ورجعت الى بيتي، لكن صورة أبي مازالت أمام عيوني…. مجرد التفكير برحيله يقتلني! كان الليل طويلا جداً! في الصباح اتصلت أمي وقالت بأن ثمة أشياء يريد والدي اخباري إياها وطلبت مني ان احضر بناتي معي. «أمي لاتخبريني انه يريد توديعنا لن أتقبل ذلك!!
– لا، هناك أمر آخر…»
ذهبت ومعي بناتي واذا بأبي يفصح عن وصيته، التي تضمنت الاهتمام ودفع تكاليف الجامعة لبناتي. امتلأت عيوني بالدموع، لكن لم أتمكن من اسكاته وكان عليه إن يكون قوياً…
كانت تلك الليلة بألف ليلة. أخذ أبي الى محافظة ثانيه لإجراء عملية كبرى في القلب، وذهبت معه أرواحنا جميعا.
جلست على فراشه وبدأت أشم رائحته وقلبي يخفق من شدة الوجع. شعرت حينها كيف يكون شعور أولادي بدون والدهم، فأنا في هذا العمر وخفت أن أصبح يتيمة!
دعوات أهل المنزل تعلوا وصلواتهم في الفجر تتلى … كلنا جالسين نترقب هواتفنا التي صمتت فجأة!
يومين كانا كفيلين بأن يجعلاني أكبر فوق عمري عمرين!
أبي في احتضار مؤقت… نمت في مكانه وبقيت طول الليل اشم رائحته ولدي يقين ان وجود رائحته يعني وجوده أيضاً. يوم واحد بألف سنة يمر بدون خبر، وأخيراً رنّ الهاتف… أبي تجاوز مرحلة الخطر وتمت العملية بنجاح! غمرت الفرحة قلبي في تلك اللحظة وكأن سقف بيتنا عاد إلى مكانه بعد أن كان يهدد بالسقوط! جاء أبي بعد رحلة علاج صعبة جداً. علت أصوات التهاليل وذبحت تحت قدميه الخراف….
تخيلت نفسي عندما كنت صغيرة أنتظر عودته من الجيش وهو يحمل في جيوبه السكاكر ويوزعها لجميع أطفال الحي…. أبي فرحة البيت وأساسها الثابت مهما تميل بنا الدنيا، أبي لايميل. كان احتضاره مؤقتاً لكنه أخذ منا الكثير!…